Thursday, May 20, 2021

ثوب العيد .. الجديد

 

٢ شوال ١٤٤٢ هـ

قصة قصيرة: ثوب العيد .. الجديد
التاريخ: خمسينات القرن الماضي الهجري.
المكان: إحدى قرى نجد. (من صاحبها مباشرة)


جلست نورة تستريح قليلاً في ظل النخلة الوحيدة في فناء الدار؛ بعد نهار حار قضته في خدمة المنزل وبعض أعمال المزرعة، وحين دخل زوجها من صلاة العصر بدا واضحاً أنها كانت تنتظره فبادرته: ألن تشتري لمحمد ثوباً للعيد !؟

نظر إليها باستغراب ونهرها قائلاً: من أين أشتري له، ولا مال عندي؟

قاطعته: اقترض، ثم اقض دينك حين تبيع المحصول،

تعجب من طلبها؛ مع أنها تعلم أن غلة المزرعة بالكاد تكفي لسداد القروض المترتبة عليها !!

“إن ثوبه ما زال جيداً وليس فيه إلا رقعة واحدة فقط” ! رمى عبارته وهو

يهم بالدخول إلى داخل البيت، وظن أنها ستكون مقنعة لها.

كانت الأحوال المعيشية في تلك الحقبة لا تسمح للناس بشراء الملابس إلا من العيد للعيد، وغالباً يبقى الثوب على الصغير والكبير يعمل فيه ويصلي وينام ولا يخلعه إلا ربما في العيد التالي ليستبدله بثوب جديد، مصنوع من قماش كتان ليتحمل عناء العمل شهوراً طويلة.

والسعيد الذي يكون له عمامة يلف بها رأسه؛ فإذا اتسخ ثوبه جداً لفها على أسفل جسده ريثما يغسل الثوب ويجف، أما من لا يكون له عمامة، فيغسل ثوبه وهو يلبسه، ثم يركض ذهاباً وإياباً حتى يجف.

طبعاً تقنيات كيّ الملابس وتجميلها لم تكن من ثقافة الناس آنذاك، فهم بالكاد يجدون الطعام. وأحد آباء ذلك الجيل لما عرف أن ولده يكوى ثوبه؛ بالنسخة العتيقة من المكواة التي يوضع فيها الجمر فتسخن السطح السفلي لتمرر المكواة على الثوب وتمنحه شكلاً مقبولاً، لما عرف غضب عليه جداً وكواه بالمكواة نفسها، باعتبار أن هذا ترف زائد عن الحد !! 🤭.

واصلت نورة حديثها بإصرار: تصرَّف يا رجل .. لا يصلح أبداً أن يخرج الولد غداً للعيد والأطفال بثياب جديدة وهو بثوب العام الماضي، ستكسر نفس ولدك بين الأولاد،

رد -بانفعال ظاهر-😤 : وهل أكسر ظهري بالديون حتى لا تنكسر نفسه !؟

غيرت التكتيك وقررت أن تعزف على وتر عاطفة الأبوة: يا رجل هذا طفل لم يكمل سبع سنين، وأنت أبوه فمن له غيرك، وسيرزقك الله من فضله، هيا ارحم قلبه.

لانت عبارته قليلاً، ورد بضيق وفي صوته نبرة مَن يستعد للاستسلام: حتى لو وجدت من يبيعني بالآجل وأحضرت القماش فكيف سيلبسه!؟ هل يلفه على جسده كالكفن !؟ فليس هناك وقت لخياطته 🤨

استبشرت حين شعرت بتراجعه عن رأيه قليلاً وتبسمت: لا عليك .. أنا سأتدبر الأمر إن شاء الله، فقط أنت أحضر القماش.

قبل الطفرات الاقتصادية المتتابعة كانت ثياب الناس كلها “ثياب عيد”، فقد كان أكثرهم لا يشتري الثياب إلا في العيد، هذا إذا اشتروا ! لكنه يبقى ثوب العيد “الجديد” ستة أشهر، ثم يتغير الاسم إلى: ثوب العيد “الماضي” الأشهر المتبقية من العام.

وبالطبع كانت نساء البيت هن من يتولين مهمة خياطة ثياب الجميع، فلا توجد ثياب جاهزة، فضلاً عن أن يوجد خياطون يخيطون للناس بالأجرة.

خرج مرغماً والكلمات تتدافع من فمه متسارعة 🤬 لا تستقر على معنىً، إلا ما يفهم منه أنه غير راضٍ عن نتيجة الحوار التي تفوقت به عاطفتها الحانية كالعادة، لا يعرف لماذا هناك أمر يدفعه للقبول برأيها دائماً !!

فرحت 😊 .. وبدأت تنفذ الخطة، سارعت لإنجاز كل المهام التي قد تؤخرها عن ما عزمت عليه؛ حتى تنتهي منها في وقت مناسب قبل رجوعه، وأعدت حبات من التمر وكوز الماء وقطع خبز بقيت من يومين لإفطارهم في آخر أيام رمضان.

أما أبو محمد فقد خرج يسابق أذان المغرب ليمر بأكثر من تاجر، محاولاً أن يشتري قطعة قماش بالأجل، لكن الأول رفض؛ وباعه الثاني بشيء من التردد، فهم أهل قرية واحدة يعرفون حجم الملاءة المالية لكل منهم.

أخذ القماش وعاد وهو يتململ، ففي كل مرة تغلبه هذه المرأة حين تستثير في نفسه عاطفة الأبوة على أكبر أولاده، الذي يؤمل أن يكون سنداً له في هذه الحياة.

ألقاه في جانب الغرفة وهو صامت، وتساءل في نفسه: كيف ستخيط الثوب وهذه آخر ليلة من رمضان !!

قطع صوت أذان المغرب تساؤلاته تلك، فسارع لأكل بضع تمرات وحسا حسوات من الزير الفخاري القديم في طرف الباحة وسط البيت، وقام للصلاة في المسجد، قالت: كُلْ قطعة خبز، فلم يرد عليها.

أما نورة فحالما انتهت من تقديم الطعام للبقرة، نادت الطفل محمد وقلبت القدر الفارغة وأشعلت الفانوس ووضعته فوقها وهي تستغفر الله من الخياطة في الليل، كما كان بعض الناس آنذاك يعتقد !!! لكنها أملت أن فرحة الطفل بالعيد ستشفع لها عند الله، بدأت بأخذ القياسات بزيادة بسيطة عن ثوبه القديم، فهو لا يأكل جيداً ولذلك فجسمه الصغير لا ينمو بسرعة، ثم قالت له اذهب ونم، وسهرت طوال الليل تسابق أناملها الدقائق لتنتهي من مهمتها الصعبة، صحيح أنها لم تكن محترفة؛ لكن قلبها يفيض حناناً وحباً لهذا الطفل.

ولم يؤذن الفجر إلا وابتسامة 😊 تضيء وجهها المرهق ودمعتان 🥲 تنحدران على خديها فرحاً بإنهاء الثوب الجديد، مسحتهما ثم علقته على عود مغروس في حائط الغرفة، صحيح أنها خاطت الثوب خياطة أولية، تستخدم عادة لتجربة الثياب قبل تثبيت الخياطة، لكنها أنجزته وسيلبسه ويفرح كسائر الأولاد،

نادته: محمد .. محمد، قم للصلاة يا ولدي، نهض سريعاً على خلاف العادة، وكأنه لم ينم أصلاً فرحاً بالثوب الجديد 😄

بادرها: أين ثوبي، ثم قفز حين لمحه معلقاً، قالت: تريث توضأ أولاً لتخرج مع والدك للصلاة، توضأ أسرع وضوء في حياته 😊 ثم وقف أمامها لتساعده على لبس الثوب فوالده سيخرج الآن إلى المصلى لصلاة الفجر والبقاء حتى صلاة العيد.

شعرت بسعادة الدنيا وهي ترى لمعان الفرح في عينيه الصغيرتين، قالت: بقيت فتحة الرقبة لم تكتمل فليس عندي أزارير لإغلاقها، لكن سأخيطها وبعد العيد تتيسر بإذن الله.

من فرحته لم يسمع ما قالت، كل ما يعرفه الآن أنه سيمشي بين أطفال القرية بثوبه الجديد مثلهم.

أخذ أبو محمد يتعجل نورة وهي تخيط فتحة الثوب ليدركا الصلاة، وفاض الحب في قلبه لهذه المرأة الحنون، وتذكر كيف كان متخوفاً من الزواج بعد أن توفيت أم محمد وتركت له ابناً لم يتجاوز الثالثة ورضيعة لم تفطم بعد، لكن تكاليف الحياة وتربية الطفلين كانت تحتاج لامرأة في البيت، فلم يكن يستطع الجمع بين العناية بهما ورعاية الزرع.

وبعد استشارة واستخارة قرر الزواج من نورة، فكانت شمعة أوقدت حياتهم نوراً، عوضته عن زوجته الاولى فاطمة، وكانت نعم الأم للطفلين اليتيمين، فهل يعقل أن تفعل هذا زوجة الأب، إلا إن كان العطف والحنان كما هو في “قلب نورة”.

استحثها: هيا يا نورة .. سنتأخر عن الصلاة والعيد مع الجماعة.

No comments:

Post a Comment