Saturday, August 29, 2020

تأملات في قصة نجاة موسى ﷺ وقومه من فرعون وقومه

 تأملات في حادث حصل قبل مئات السنين على شواطئ الحدود الشرقية لمصر 


سنوات طويلة عانى فيها بنو إسرائيل منذ أن رأى طاغية مصر (فرعون) رؤيا أولها له الكهان بأن نهاية ملكه تكون على يد غلام يولد في بني إسرائيل، فتملكه جنون العظمة والخوف على الكرسي وأصدر قراراً ظالماً بقتل كل المواليد الذكور الذين يولدون في بني إسرائيل، وما لبث قومه أن راجعوه في ذلك القرار بحجة أنه سيفني رجال بني إسرائيل ولن يجد فرعون وقومه من يستخدمونهم في أعمالهم، فقرر أن

يقتل المواليد في سنة ويتركهم في السنة الأخرى، وبالرغم من ذلك أرغم الله أنفه فكانت ولادة موسى ﷺ  -الذي سينهي الله ملكه على يده- في العام الذي يقتل فيه المواليد الذكور، بل أرغم الله أنفه أكثر من ذلك أن جعل موسى ﷺ يربى في قصره، بل تحت رعايته وحماية جنده.

 ليس هناك ما يثبت كم عاماً استمرت هذه المجزرة الرهيبة ضد أطفال بني إسرائيل الأبرياء، ولا كم قتل منهم فرعون أخزاه الله، مئات أم ألوف أم أضعاف ذلك، لكنه كان قد جمع القابلات وقال لهن: "لا يولد على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا تقتلنه"، وتوعّدهن ووكّل بهن وكلاء من جنده، فكانت القابلات ينفذن أمر فرعون مرغمات، فكانت الواحدة منهن تقتل كل مولود ذكر من أطفال بني إسرائيل خوفًا من فرعون وبطشه، وأما الإناث فكن لا يُقتَلن بل يبقين على قيد الحياة من أجل الخدمة والتسخير.

 كم من أم حملت جنينها تسعة أشهر ثم لما ولد قتلوه لا لذنب إلا لأنه ولد ذكراً، كم من أب لا يولد له كان يتمنى الولد فلما حملت زوجته خاف بدل أن يفرح، ولما ولد له ذكر قتلوه وأحرقوا قلبه، كم من أخت وأخ قتلوا إخوتهم الصغار أمام أعينهم، وكم من شيخ وكم من عجوز وكم وكم وكم، لكن ربك يمهل ولا يهمل.

 كل هؤلاء شفى الله صدورهم من فرعون وجنوده الظلمة الجبابرة، لما سار موسى ﷺ بقومه ليلاً حين أمره ربه بالمسير، واصلوا الليل بالنهار حتى أقبلوا على البحر، وسد الطريق في وجوههم، وبدأت طلائع جيش فرعون تزحف نحوهم، وبلغت القلوب الحناجر وأيقنوا بالهلاك، لكن موسى ﷺ كان واثقاً بنصر الله له، وكان موقناً بأن رحمة الله أكبر من كل بلاء.

 وفي لحظة تبدلت الأحوال حين أمر الله موسى ﷺ بضرب البحر بعصاه فانشق البحر إلى اثني عشر طريقاً يابسة ممهدة غير موحلة، بعدد قبائل بني إسرائيل الاثني عشر، فتسارع الناس للعبور العظيم، فوجئ فرعون وجنوده بهذه المعجزة التي لم يسمعوا بمثلها من قبل فضلاً عن أن يروها، وقد كان فيها عبرة لمن يعتبر، لكنهم تمادوا في غيهم واندفعوا يلاحقون موسى ﷺ وبني إسرائيل ليدركوهم، مأخوذين بنشوة القوة والجبروت التي أسكرت عقولهم.

 حتى إذا تكامل عبور بني إسرائيل واكتمل عددهم، وأراد موسى ﷺ أن يضرب البحر مرة أخرى ليمنع فرعون وجنوده من العبور أمره الله أن يتركه فامتثل، فتقدمت جحافل فرعون وجنوده في الطرقات الجافة، وبدأت جموعهم تقترب من الضفة الأخرى حيث موسى ﷺ وقومه يقفون يرقبون المشهد وماذا سيحدث، وجحافل الجنود التي لها أول وليس لها آخر تقترب منهم، بل بعضهم أصبح على بعد عشرات الأمتار من بني إسرائيل، وعاد الرعب يضرب قلوب بني إسرائيل، فهذا فرعون وجنوده كالكابوس يقترب منهم وموسى ﷺ لا يحرك ساكناً، الجميع كان ينتظر منه أن يضرب البحر ليعود كما كان، بل ربما أن بعضهم تجاوز حدود الأدب وبدأوا يصرخون به أن يضرب البحر لئلا يدركهم فرعون، لكن موسى ﷺ أحد أنبياء الله أولي العزم من الرسل، ما كان ليفعل شيئاً إلا بأمر الله، فضلاً عن يفعل ما هو خلاف أمر الله الذي أمره ﴿وَاترُكِ البَحرَ رَهوًا إِنَّهُم جُندٌ مُغرَقونَ﴾.

وفي توقيت دقيق ولعله حين أصبح بنو إسرائيل يرون ملامح وجوه فرعون وجنوده الحانقة التي تلاحقهم، أمر الله موسى ﷺ بأن يضرب البحر مرة أخرى لتكون تلك الضربة السبب في عودة البحر كما كان، فانهمرت كميات هائلة من الماء غمرت الجيش الزاحف في الطرقات الجديدة التي لم يسبق لها أن رأت الشمس قبل هذا اليوم، وربما لا تراها أبداً إلى يوم القيامة.

 تداعت المياه -التي كانت كالأسوار على جوانب الطرق- تداعت فجأة على فرعون وجنوده الزاحفين نحو موسى ﷺ وقومه، فأغرقتهم أمام أعين بني إسرائيل، غرق فرعون أمام مئات وربما آلاف الأمهات العجائز -في عمر أم موسى- اللواتي قتل فرعون لها ولداً -أو أكثر- في أول يوم ولد فيه، غرق وعانى من سكرات الموت أمام الشيوخ والشباب والفتيات الذين عانوا من تلك المجزرة الرهيبة وآثارها، غرق وغرق جنوده الذين أطاعوه بالباطل والظلم، في مشهد رهيب مهيب لا يمثله ولا يصوره أجمل تصوير إلا قول الله تعالى: ﴿… وَيَشفِ صُدورَ قَومٍ مُؤمِنينَ﴾.


 
إن الله ﷻ يمهل ولا يهمل

 



أين شق الله البحر لموسى

اختلف المفسرون والمؤرخون في هذا، فمنهم من يرى أن الذي شقه الله هو نهر النيل، وأنهم اتجهوا جنوباً فراراً إلى السودان التي لم تكن خاضعة لفرعون، وأن النهر إذا اعترض سمي بحراً، لكن هذا يعارضه أن وجهة موسى وقومه كانت إلى فلسطين، ومنهم من قال بل بلغوا بحر القلزم (المعروف حالياً بالبحر الأحمر)، وهنا اختلفوا فريقين، فريق قال أنه خليج العقبة، وكان الشق من عند منطقة نويبع، وهذا يعارضه أن المسافة طويلة (350كم) حتى يقطعها موسى ومن معه من الأعداد الكبيرة والنساء والشيوخ والأطفال في هذه الفترة القصيرة.



 

والآخرون قالوا بل هو خليج السويس، وهذا القول هو القول الأرجح -والله أعلم- فالمسافة قريبة يمكن لموسى ومن معه أن يقطعوها في هذه الفترة القصيرة، وأن يدركهم فرعون ومن معه في فترة أقصر لأن معهم خيول وتجهيزات تمكنهم من ذلك.

No comments:

Post a Comment