Friday, December 5, 2008

يا راحلين إلى منى بقيادي ... هيجتموا يوم الرحيل فؤادي







يـاراحـلـيـن إلـى مـنـى بقــيـــادي  ---  هيجتموا يــوم الرحيـــل فـؤادي


سرتم وسـار دليلكـم يا وحــشتـي  ---  الشوق أرقني وصوت الحـادي




مكة المكرمة البلد الحرام . . مهوى أفئدة الملايين بل مهوى أفئدة كل المسلمين على الأرض، لا لجمال طبيعتها ولا لاعتدال جوها وطيب هوائها أو طول أنهارها، لا بل على العكس فكل هذه الأمور التي تجذب الناس عادة إلى البلدان ليست فيها، فطبيعتها جبلية وعرة، لا تلتفت إلا وترى الصخور في كل جانب، وجوها -شرفها الله- حار دائماً وإذا اعتدل استغنى أهلها عن مكيفات الهواء ربما في الليل فقط !!

وأما المياه فلولا أن الله عز وجل جعل فيها ماء زمزم ينبع منذ آلاف السنين ربما لمات أهلها عطشاً، وهي قبل أن يظهر فيها ماء زمزم لم يكن يسكن فيها أحد حتى الحيوانات بل حتى الطيور، فعندما نبع ماء زمزم من تحت قدم أبينا إسماعيل عليه السلام مر قوم من جرهم بقرب مكانه وأمه واستغربوا حين رأوا الطيور فوق المكان فلا عهد لهم بماء هنا فضلاً عن أي شكل من أشكال الحياة.

لكنها المعجزة الخالدة الخالدة في تحقيق دعاء أبينا إبراهيم عليه السلام حين دعا قائلاً: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) فأضافه الله عز وجل لنفسه فهو بيت الله، وجعل أفئدة عباده المؤمنين تهوي إلى هذا البلد الحرام، وربما باع أحدهم أعز ما يملك أو قتر على أولاده أو جاع ومنع نفسه التمتع بملذات الحياة كل ذلك ليمتع نظره برؤية بيت الله عز وجل، وكم ذُرِفت من الدموع عند الوصول وقبل الوداع، فسبحانه تعالى حين أجاب دعوة خليله إبراهيم بأن جعل أفئدة من الناس تهوي إليهم.

شرفني الله عز وجل بالحج عدة مرات وكل سنة أذوب شوقاً لأكون مع الحجاج وأطير فرحاً إذا أكرمني الله عز وجل وشرفني أن أكون أحد من يلبي دعوة إبراهيم عليه السلام حين أمره (وأذن في الناس بالحج يأتوك ... )، أما إذا لم يكتب الله لي حجاً في تلك السنة فأظل حزينا واجماً أتحسر على ذنوبي التي منعتني من هذا الفضل، ولكنني لا أيأس فاظل أمني النفس بالحج حتى يفوت الوقوف بعرفة، و(الحج عرفة) كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.

وقبل سنوات وعكت زوجتي -حفظها الله- وعكة دخلت بسببها إلى المستشفى وكنت أمنّي النفس بالحج تلك السنة، ولكن مضت الأيام الأولى من ذي الحجة وهي لا تزال في المستشفى، ومضت الأيام 5..6..7..8.. ولكن لم يخب الشوق في نفسي، وفي صبيحة يوم عرفة بعد أن نفر الحجاج من منى إلى عرفات منَّ الله تعالى بتحسن صحتها وشفائها وخروجها من المستشفى، ولما كانت تعرف شوقي للحج تلك السنة سمحت لي جزاها الله خيراً بأن أتركها في رعاية والديها وأحج.

وأعلنتُ حالة الطوارئ القصوى واتصلت ضحى ذلك اليوم قرابة الساعة (10:00) بصديق مقرب وأبلغته بنيتي، فتعجب وقال: ولكن اليوم هو التاسع من ذي الحجة، وقد نفر الحجاج إلى عرفات فهل يمكننا السفر؟ قلت: سيعيننا الله عز وجل، فاستعد وسأمر عليك لنصلي الظهر والعصر في الميقات جمع تقديم ونتوكل على الله إلى مكة، وفعلاً صلينا الظهر والعصر في الميقات، ثم غذذنا السير إلى البلد الطاهر وأعاننا الله عز وجل فاليوم هو يوم الوقفة ولا أحد في الطريق، فلا سيارات ولا مرور فلم نقابل إلى عدداً لا يتجاوز اليد الواحدة. قطعنا المسافة في مدة قياسية 2:45 ساعة، من الميقات إلى نقطة التفتيش في بداية مكة.

ولما وصلنا نقطة التفتيش تعجب رجال الشرطة، وقالوا: إلى أين!! قلنا: إلى الحج، قالوا: ولكن دخول السيارات الصغيرة ممنوع، قلنا: لن يأتيكم أحد بعدنا، فاكسبوا أجرنا واسمحوا لنا بالحج، وفعلاً سمحوا لنا بالدخول، لكن واجهتنا مشكلة أن كل الطرق أصبحت عكس السير، فقد كانت في الصباح من إلى عرفات والآن أصبحت من عرفات، ولا يسمح بعكس السير والجميع يستعد لساعة الغروب لتبدأ نفرة الحجيج إلى مزدلفة، ولم يبق على المغرب إلا أقل من ساعة تقريباً، حاولنا أن ندخل من عدة طرق، لكن النتيجة واحدة أن الطرق مغلقة استعداداً للنفرة . . :(

وبقينا حائرين كيف نتصرف، ثم قابلنا أحد أبناء مكة (وأهل مكة أدرى بشعابها :) ) فسألناه كيف يمكننا دخول عرفات، قال: الحقو بي، وسار بنا من طرق صحراوية خلفية حتى أدخلنا عرفات، وقد قربت الشمس من المغيب، وبفضل الله وجدنا أنفسنا في مسار الوفود الرسمية، فلم يكد يغيب قرص الشمس حتى فتح الطريق وتسابقت السيارات والحافلات في نهب الطريق إلى مزدلفة، ولم تتجاوز الساعة الثامنة إلا ونحن قد فرشنا بساطاً على أحد أرصفة مزلفة وصلينا المغرب والعشاء، ولله الحمد، كل هذا ونحن على سيارتنا الصغيرة.

ثم يسر الله لنا الرمي بقية الأيام، وبالطبع فقد تعجلنا فلم يكن لنا مكان نأوي إليه في منى إلا مقاعد السيارة حيث كنا نشغل المكيف، وننام فيها أغلب الليل ثم ننام بقية النهار عند أحد الأصدقاء في بيته، لكنها كان من أمتع السنوات التي حججت فيها، أسأل الله القبول في السابق واللاحق.

البيت الذي عنونت به التدوينة هو لعبدالرحيم البرعي -رحمه الله- من قصيدة مؤثرة نظمها حين دهمه مرض الموت قبيل وصوله إلى المدينة النبوية، فقد ذُكر أن عبدالرحيم البرعي في حجه الأخير أخذ محمولاً على جمل، فلما قطع الصحراء مع الحج الشامي وأصبح على بعد خمسين ميلاً من المدينة هب النسيم رطباً عليلاً معطراً برائحة طيبة الطيبة، فازداد شوقه للوصول، لكن المرض أعاقه عن المأمول، فأنشأ قصيدة من أجمل ما قيل في أشواق الحجاج والشوق لبيت الله، ويقال أنه لفظ مع آخر بيت منها نفسه الأخير، يقول فيها:


يـا راحـلـيـن إلـى مـنـى بقــيـــادي  ---  هيجتموا يــوم الرحيـــل فـؤادي


سرتم وسـار دليلكـم يا وحــشتـي  ---  الشوق أقلقني وصوت الحـادي


حرمتمـوا جفني المنام ببعدكـم  ---  يـا سـاكنين المنحنـى والـوادي


ويلوح لي مابين زمزم والصفــا  ---  عند المقام سمعت صوت منادي


ويقول لي يا نائمـا جـِـدَّ السُــرى  ---  عرفـات تجلو كل قلب صـادي


من نال من عرفات نـظرة سـاعـة  ---  نال السرور ونال كل مـرادي


تالله مـا أحلى المـبيت على مـنـى  ---  في ليل عيد أبـرك الأعيـادي


ضحوا ضحايـاهـم وسـال دماؤها  ---  وأنا المتيـم قد نحـرت فـــؤادي


لبسوا ثيـاب البيض شارات الرضا  ---  وأنا الملوع قد لبسـت سـوادي


يارب أنت وصلتهم، صلني بـهــم  ---  فبحقهـم* يـا رب فُـك قـيــادي



فــإذا وصـلتـم سـالمـيـن فـبلغــوا  ---  مني السلام أُهيـل ذاك الـوادي

قـولـوا لـهـم عـبـدالرحيـم مـُـتـَيـَّم  ---  ومـفــارق الأحـبــــاب والأولاد



صلى علـيك الله يا عـلـم الـهـدى  ---  ما سـار ركب أو ترنـم حـادي




وهي هنا بصوت د. عبدالعزيز الأحمد.

* لا يجوز سؤال الله تعالى بجاه فلان أو بحق فلان، ولو بجاه الأنبياء أو المرسلين، أو بحق الأولياء أو الصالحين، فإنه ليس على الله حق لأحد.

» » » فتوى عن حكم سؤال الله بجاه الأنبياء والصالحين.

3 comments:

  1. كنت أتمنى الحج السنة

    لكن قدر الله و ما شاء فعل

    عجيب ان ترى شخص لا يفصله عن الحج إلا كيلومترات و لم يحج !

    سبحان الله ألهذه الدرجة القلوب قاسية

    و قصتك مع حجة صاحبك أعجبتني جدا

    وفقكم الله لطاعته

    ReplyDelete
  2. .

    حياك الله أخي AAM

    الحج اختيار واصطفاء من الله عزو وجل . .

    أسأل الله أن يرزقني وإياك أن نكون ممن اصفاهم لحج بيته العام القادم

    .

    ReplyDelete
  3. .

    شكراً أخي الحبيب أبو عمرو . .

    قصيدة مؤثرة وصوت جميل ما شاء الله

    .

    ReplyDelete